كيف يمكن للفيروس التاجي كوفيد 19 أن يعيد تشكيل النظام العالمي؟

By Amitav Acharia

نقلته إلى العربية فريدة طاجين

إن نظرية الإعتماد المتبادل لا تجادل بأنها تمنع الصراع ولكن جدلها الحقيقي يتلخص في أنه بإمكانها أن تجعل الصراع أكثر تكلفة لجميع الأطراف في علاقات اعتمادية مترابطة، وهو تماما ما أثبتته أزمة الفيروس التاجي  كوفيد-19

Reuters
إن الفيروس التاجي المستجد ليس مجرد كارثة أصابت الصحة العامة العالمية، بل  سيحمل أيضا تحولا في النظام العالمي، وقد أثرت الجائحات والاوبئة على الأنظمة العالمية وغيرتها في الماضي، حيث أسفرت جائحة طاعون الموت الأسود "Black Death"  في القرن الرابع عشر الميلادي، والتي يعتقد أيضا أن منشأها الصين، عن وفات 90% من سكان هوبي، وما يقارب نصف سكان الصين آنذاك البالغ عددهم 123 مليون نسمة، وخفضت عدد سكان العالم بما يزيد عن 100 مليون شخص، فأضعفت تلك الجائحة النظام العالمي المنغولي بشكل حاد، بعد أن بنى الماغول أكبر امبراطورية برية في تاريخ العالم، حيث طوروا التجارة على نطاق واسع وربطوا شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بشبكة اقتصادية واسعة وقاموا ببناء الطرق والجسور ووفروا الأمن للتجار والمسافرين، فأصبحت تلك السبل التجارية قنوات لنشر الوباء، وقد أدى الطاعون إلى تعطيل العلاقات الاقتصادية المتداخلة والتي كانت تعرف باسم " نظام خوبي" وهو نظام قائم بين الأجزاء الأربعة للإمبراطورية: اليوان في الشرق "بكين"، وشاغاتاي خانات في المركز، وإلخانات في الجنوب الغربي "آسيا الوسطى وإيران"، والتجمع الذهبي في الشمال الغربي على حدود روسيا، كما أغلقت المدن الاوروبية حدودها وانقلبت على اليهود الذين حملتهم كعادتها المسؤولية عن الكارثة، وقطعت هذه الجائحة الصين عن أوروبا لعدة قرون.

وبالمقارنة مع طاعون الموت الأسود فإن الفيروس التاجي المستجد كوفيد-19 يبدو معتدلا نوعا ما، فعلى الرغم من قوة العدوى المرتفعة التي يتميز بها إلا أن معدل الوفيات التي تسبب فيها تبدو أقل حتى الآن، فقد تسبب طاعون الموت الأسود في مقتل الكثير من الشباب، وسمي الطاعون الثاني (عام1361) بطاعون الأطفال، بينما يتسبب الفيروس التاجي كوفيد-19 غالبا في قتل الأكبر سنا، ومع ذلك، وعلى الرغم من تحسن الطب والرعاية الطبية، إلا ان العديد من البلدان كانت غير مستعدة بشكل فادح، ويبدو أن نظام الحجر الصحي الذي اخترعه الخليفة الأموي السادس الوليد* في أوائل القرن الثامن الميلادي  في دمشق هو الطريقة الفعالة الوحيدة لمكافحة انتشار الفيروس، بغض النظرعن المصطلح الحديث الرائج "التباعد الاجتماعي".

فكيف سيؤثر الفيروس التاجي على النظام العالمي الحالي إذن؟ رغم أن الوقت لا يزال مبكرا للإجابة على هذا السؤال، إلا أن بعض الاتجاهات حوله باتت واضحة.
أولا: سوف تؤدي الأزمة إلى تقويض دعم العولمة والتي ضعفت بالفعل بسبب الشعبوية المتزايدة وسياسات رئاسة ترامب، فانتشار الفيروس في جميع أنحاء العالم بسرعة البرق، بفضل الاعتماد الاقتصادي المتبادل، فضلا عن السياحة والاسفار، ستلقي باللوم على العولمة وستخلق المزيد من ردود الفعل العكسية ضدها، فإغلاق الحدود الوطنية وبين المقاطعات، وإعادة التأكيد على سيادة الدولة من شأنهما الكشف عن إحدى أقوى أساطير العولمة باعتبارها العالم بلا حدود. 
ثانيا: قد يكون الفيروس مسمارا في نعش فكرة "الغرب" بما في ذلك ما تبقى من العلاقات عبر الأطلسية بعد أن حطمها ترامب، حيث فشلت مجموعة السبعة الكبار في إصدار بيان بسبب إصرار إدارة ترامب على الوصف "فيروس الصين"، وفي نفس الأثناء، حذر رئيس الوزراء الإيطالي السابق إنريكو ليتا في مقابلة أجرتها معه صحيفة الغارديان في أول أفريل من إصابة أوروبا بـ "فيروس ترامب" من خلال أمم تسلك نهج "إيطاليا أولا" و"بلجيكا أولا" أو "ألمانيا أولا" أكثر من انتهاج استراتيجية مشتركة للاتحاد الأوروبي لدعم إيطاليا، أكبر ضحايا أوروبا والعالم للفيروس التاجي، ففي استطلاع حديث للرأي عبر 88% من الإيطاليين عن شعورهم بالخذلان من الاتحاد الاوروبي.
ثالثا: قد يعمل الفيروس على تعزيز أجندة ترامب " أمريكا أولا"، ففي مؤتمر صحفي عقده في البيت الأبيض حول الفيروس التاجي في الثاني من أفريل 2020، صرح بيتر نافارو Peter Navarro، مهندس حرب ترامب التجارية أنه :" إذا كلن هناك دليل على ماقدمه الرئيس من حدود أمريكية آمنة وفلسفة واستراتيجية ومعتقدات قوية في مجال التصنيع"، على حد تعبيره " فهي هذه الازمة، لأنها تؤكد كل ما نراه بهذا الشأن"، ومع ذلك فإن صورة أمة من البائسين مع أكبر اقتصاد على مستوى العالم، فضلا عن جيش غير قادر على الاستجابة، كلها تتناقض بشكل صارخ مع تطلعات ترامب من MAGA  اي جعل امريكا عظيمة مجددا.

ولا تزال الأزمة تعمل بشكل خطير على التقليل من مصداقية أمريكا على المستوى العالمي ومصداقية ادارة ترامب داخل أمريكا، وسيكون من الصعب نسيان صورة قوة عظمى بائسة بأكبر اقتصاد في العالم وجيش غير قادر على الاستجابة واصابها ضعف حاد بسبب فيروس تم التحذير منه مسبقا، وفي حين أن ترامب قد لا يأبه بالرأي العام الدولي، فإن الكثير من الأمريكيين يشعرون بالعجز الذي يصيب خطوط الحزب بالكامل، وكل هذا قد يعني مسمارا آخرا يدق في نعش النظام الدولي الليبرالي الذي يعاني بالفعل جراء سياسات ترامب والشعبوية الغربية.
رابعا: فهل ستستفيد الصين من هذه الأزمة؟ تضع هذه الأزمة النماذج السياسية والاقتصادية النسبية للولايات المتحدة والصين تحت الأضواء العالمية، وأي منها خرج من الأزمة بشكل أفضل فسوف يكتسب المزيد من المصداقية، وهناك احتمال بأن يكون تأثيرالأزمة الاقتصادي أشد قسوة على الولايات المتحدة منه على الصين، وإذا حدث هذا فإنه سيعجل من تحول السلطة إلى آسيا، والتي كانت جارية بالفعل.
إن فقدان أمريكا للقوة الصلبة والقوة الناعمة من شانه أن يؤكد الانتقال إلى نظام ما بعد أمريكي، أو ما أسميه عالم متعدد الاطراف "Multiplex World".

حتى الآن، وبينما تمكنت الصين من السيطرة على تفشي الوباء، إلا أنها تعرضت لانتقادات بسبب فشلها الأولي في التصرف بشفافية وفعالية لمنع الفيروس من الخروج عن نطاق السيطرة، مما أدى إلى تقويض طموحات القيادة العالمية لبكين، وهو أمر لن يتم نسيانه ولا مسامحته بسهولة، حتى مع سعي بكين لإصلاح الضرر من خلال تقديم المساعدة والمشورة للعديد من الدول لمساعدتها في التغلب على تفشي الوباء، فصورة الصين لم تساعدها نظرية المؤامرة التي روج لها مسؤول في وزارة الخارجية والتي حمل فيها الولايات المتحدة المسؤولية باعتبارها مصدرا للفيروس، فضلا عن قلة إبلاغ الصين عن حالات العدوى (التي اعترفت بها الآن) والوفيات ، والتي ربما أعطت شعورا زائفا بالتكاليف البشرية المترتبة عن الفيروس، مما يعيق الجهود التي تبذلها الدول الأخرى لمكافحته، وإلى أن تتقبل الصين نصيبها من المسؤولية عن تفشي الوباء، فإنه لن يتم رد اعتبار صورتها الدولية.

وقد يحمل الفيروس الصين تكاليف أخرى حتى لو انتعش اقتصادها المحلي، حيث يمكنه أن يجعلها وجهة استثمارية وسياحية أقل جاذبية، وربما يسرع من عملية فك الارتباط بينها وبين الولايات المتحدة التي قد تعيد توجيه سلسلة امداداتها بعيدا عن الصين.والواقع أن هذه الأزمة قد تنتهي إلى وضع قوى ناشئة أخرى، كالهند وروسيا في وضع سلبي، إذا ما كرروا إخفاقات الغرب.

أخيرا: سوف يناقش النقاد والخبراء ما إذا كانت الاستجابات الوطنية للأزمة قد وضعت الديمقراطيات في ضوء أكثر إيجابية من الدول الاستبدادية، ولكن البلدان التي قدمت استجابات قوية إلى حد معقول للفيروس التاجي تشمل الاثنين معا، لذلك فإن المنافسة الحقيقية هنا تتعلق بالحكم وليس الأيديولوجية أو نوع النظام.
تؤكد الأزمة الحالية حقيقة مفادها أن الحوكمة الفعالة تفوق مرتبة القوة المادية (الاقتصادية أو العسكرية) في التعامل مع التهديدات العالمية، وكما كتب فريد زكريا Fareed Zakaria مستخدما لغة ألكسندر هاميلتون Alexander Hamilton ظهرت الولايات المتحدة على أنها "حكومة سيئة التنفيذ"، ومرة أخرى، أشير إلى أنه من السابق لأوانه الحكم على نجاحهم النهائي، إلا أنه إذا استمر الإتجاه الحالي، فإن "الفائزين" إن صحت هذه الكلمة، هم البلدان/الأقاليم الصغيرة والمتوسطة التي أثبتت قدرتها على الارتقاء إلى مستوى الحدث من خلال إجراء الاختبار وتدابير الاحتواء اللازمة، كسنغافورة وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتايوان، وهو ما يتماشى إلى حد كبير مع فكرة قيادة "G-Plus"**، والتي تعد عنصرا رئيسيا في فكرة "عالم متعدد الأطراف"، وهي تؤكد على الحوكمة الموجهة نحو القضايا وتمارسها جهات فاعلة متعددة إلى جانب القوى العظمى التقليدية ومكانتها في تحديد معالم النظام العالمي الناشئ.

وفي حين أن هناك خطرا حقيقيا من أن يتمكن الفيروس من جعل الدول تنزع نحو الإنغلاق على الذات وتعزيز المذهب التجاري المعتمد على الذات أكثر من نزوعها نحو التعاون المتبادل، إلا أن هناك بعض الجوانب المشرقة، شريطة أن يتعلم المجتمع الدولي الدروس الصحيحة من هذه الأزمة.

وعلى عكس أولئك الذين قد ينظرون إلى الأزمة على أنها تنذر بمخاطر العولمة وتشير إلى فضائل النزوع نحو الاعتماد على الذات، فأنا أعتقد أنها تنصف أنصار الاعتماد المتبادل، حيث أن نظرية الإعتماد المتبادل لا تجادل بأنها تمنع الصراع ولكن جدلها الحقيقي يتلخص في أنه بإمكانها أن تجعل الصراع أكثر تكلفة لجميع الأطراف في علاقات اعتمادية مترابطة، وهو تماما ما أثبتته أزمة الفيروس التاجي  كوفيد-19.   
العولمة لن تنهيها هذه الأزمة، ولكن نأمل أن ترفع الأزمة من المطالب بجعل العولمة أكثر إنسانية وانتظاما، ويتعين على البلدان أن تعكس اتجاه السياحة المفرطة التي كانت عاملا رئيسيا في انتشار الفيروس، وهو ما يحسن حماية تراثها الوطني والبيئة العالمية، كما يجب أن تخلق الأزمة وعيا كبيرا للمزيد من الاستثمار في الصحة العامة الوطنية والعالمية (مع الأخذ بعين الاعتبار أن ترامب خفض مساهمة الولايات المتحدة في تمويل منظمة الصحة العالمية بمقدار النصف) خاصة في دول مثل الولايات المتحدة، وبالإضافة إلى ذلك، تؤكد هذه الأزمة على أهمية التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف، فقد جعل انهيار العلاقات بين الولايات المتحدة والصين الاستجابة الأمريكية والدولية للفيروس التاجي أضعف بكثير مما كانت عليه في الأزمات السابقة مثل سارز وإيبولا وأنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور. وبما أن الأمر كذلك، فإن الدرس الأساسي  المستفاد من الأزمة سوف يتلخص في الحاجة إلى المزيد من التعاون العالمي وليس العكس.

أميتاف أتشاريا هو أستاذ في الجامعة الأمريكية بواشنطن، وزميل بمعهد بيرغروين في كاليفورنيا.
يقصد الخليفة ابو العباس الوليد بن عبد الملك الملقب بالوليد الأول.
** يقصد بها الدول الكبرى + آخرون

نشر المقال الاصلي بتاريخ 18 افريل 2020 على موقع The National Interest على الرابط التالي: https://nationalinterest.org/feature/how-coronavirus-may-reshape-world-order-145972 

Comments

Popular posts from this blog

درس كوفيد-19 المؤلم للولايات المتحدة الأمريكية حول الاستراتيجية والقوة

عالم أقل انفتاحا وازدهارا وحرية